سلمان ناطور: الكاتب العائد من نوبة قلبيّة

حاوره: علاء حليحل

للكاتب والمسرحيّ والصحافيّ والمبدع المخضرم سلمان ناطور اقتراح مُثير، والحديث له: “يجب على الإنسان أن يعيش مئتي سنة؛ المئة الأولى يعمل بها ويكدّ ويوفر، وينحشر فيها التعب والكدّ ووجع الرأس؛ والمئة الثانية تكون مُخصّصة للخَتيَرَة المُريحة، تعيش فيها ممّا وفرتَه. يعني: تُعطي في مئة سنة وتأخذ في المئة السنة الثانية. وفي هذا عدلٌ أيضًا، فكلما أعطيتَ أكثرَ أخذتَ أكثر”!

بعد النوبة القلبية التي ألمّت به قبل حوالي الأسابيع الثلاثة (منتصف شباط 2005)، قال لي ناطور إنه يعيش الآن في مزاج المئة الثانية، في مرحلة “الختيَرَة المُريحة”. وهو في ثنايا حديثه يعبّر عن حبّه –الصريح وغير الصريح- للحياة أكثر من مرة: “أنا أحب الحياة وبديش أموت”!

ما هو العنوان؟

وقع عليّ النبأ كالصاعقة: سلمان ناطور في الانعاش، نوبة قلبية! ماذا يمكن أن يفعل المرء في مثل هذا الوضع؟ كنتُ في منتصف الأسبوع أعمل مع الزملاء على إغلاق العدد الأسبوعي من “المدينة”، وكأيّ صحافي نخَرته سوسة المهنة البغيضة والكريهة، صرتُ أفكّر في عنوان الصفحة الأولى، فيما إذا لو. فنحن هكذا معشر الكلمة، نفكّر في العنوان اللائق قبل التفكير بمشاعرنا: هل لدينا صورة مناسبة، من يمكن أن يكتب تأبينًا جيّدًا، هل تكفي ستّ صفحات أم يجب تخصيص عدد كامل؟ قد تكرهون ما أقول الآن، ولكنّ من ابتلى بداء الصحافة لا يمكنه ألا يفكّر هكذا. أقصى ما أتمنّاه في حياتي هو أن أموت في وقت يكون فيه المحرّر المناوب صحافيًا جيّدًا، وأن يكون مصمم الخبر مرهفًا وألا تكون صورتي حمراء أكثر من اللازم، في داخل الإطار الأسود الثخين!

جنّدتُ كمية هائلة من وقاحتي التي أشتهر بها وأشركتُ ناطور في أفكاري هذه عنه. وسألتُه أيضًا –ويا للخجل الكبير- عن العنوان الذي كان يريده على صدر الصفحة الأولى، فيما إذا لو…

كنا نجلس في بيته الرحب (مساحةً وشعورًا) في دالية الكرمل ونتجاذب أطراف الجمل المتقطعة عن حالة الطقس اليوم، وأوجه التشابه والاختلاف بين هنا وبين قريتي البعيدة، الجش. عندما تجرأتُ على طرح مكنونات أفكاري بين يديْه، ابتسم ولم يؤاخذني- فهو محرّر وصحافي أيضًا. قال: “الصراحة أنني لم أفكر بسؤال من هذا النوع. بماذا سيحدث بعد الموت، من سيكتب وماذا.. في اللحظات التي كنتُ أموت بها لم يكن هناك مجال للتفكير بهذا. الأزمة استمرّت بين ساعة، وبين ساعة ونصف الساعة، وبعد أن فتحوا لي الشريان (في عملية قسطرة- ع.ح.) ارتحتُ تمامًا. لم يكن عندي في هذه اللحظات أيّ تفكير باتّجاه أنّني سأموت وماذا سيُكتَب عنّي. بعدين هاي مش شغلتي، دبّر حالك.. كلّ واحد يدبّر حالو.. هذه من الهموم التي أزحتُها عني. الآن ونحن نتحدّث أتذكر أنّ اثنين كتبا عني بعد ما مررتُ به. والآن فقط بدأت أتنبه إلى أنّ هناك من سيكتب عني لو صار معي شي”.

ثم يفكّر ناطور أكثر في طقوس الموت التي لم تشغل باله إلى أن أثرتُها أنا بصلافتي: “أتساءل، بعد أن أموت، لا يهمّ متى، وعندما تأتي اللحظة، هل سأفكّر في الجنازة والتشييع مثلا؟ أعرف اثنيْن على الأقل، نتان زَخ وحاييم حِيفر، كتبا عن جنازتيْهما.”

s-1– أليست هذه نرجسية في معظمها؟

ناطور: “قد يكون بها بعضٌ من النرجسيّة، ولكنها في الأساس أمر إنسانيّ، لأنك في هذه اللحظة، بينك وبين نفسك، تبني الجنازة مع تصنيف من يحبك أو من لا يتأثر، من أنت بعلاقة معهم، من سيشمت بك. هناك دائمًا من يتمنى لك الموت. عندما تُبنى من حولك شبكة علاقات أوسع من الشبكة الإنسانيّة القريبة، أدبيّة أكانت أم تجاريّة أم غيرها، يحدث ذلك.

“ثم إنّني لا أفكّر في الجنازة وكنت أتمنى ألا تكون جنازة. أن أُدفَن على السّكت وانتهى. وألا يبقى أثر لجسدي بعد وفاتي. كنتُ أتمنى لو أحرَق وأبعثَر في وعر ما، أو أن أتبرع بجسدي للعلم، لطلاب الطبّ في السنة الأولى كي يتعلموا الطب عليّ، لأنّ لا قيمة تُذكَر للجسد. الإنسان ينتهي عندما يموت ويصبح كالطاولة أو كالشجرة ويتحلّل مع عوامل الطبيعة.”

ناطور يرفض حتى أن يُبنى له قبر أو أيّ شاهد على مكانه، وهو حتى يتطيّر ويرفض أن يُدفن إلى جانب من يُبنى عليهم قبر. ألا تريد أن نذكرك؟.. “بلى، طبعًا، ربما بما تركته ورائي، وما عملته في حياتي سيبقى، في المجلات والجرائد والكتب- وهذا يكفي. هناك الملايين من الناس تموت يوميًا، وأمر طبيعي جدًا ألا يترك الجميع نفس الأثر”.

سلمان الجديد

أمر غريب يحدث مع من يمرّ بنوبة قلبية أو بعملية مفتوحة في القلب، أو بأيّ حادثة يمكن أن تؤدّي بالانسان إلى الموت. أعرف عددًا من الناس المقربين ممّن مرّوا بنوبة قلبية، وأنظر إليهم اليوم ولا أصدّق أنهم هم أنفسهم، مَن عرفتهم قبل سنوات خلت. التغيير الحاصل على من حلّت بهم نوبة قلبية كبيرٌ، وهو في بعضه مفهوم جدًا: فالنظر في عينيّ الموت لا يدع مجالا للتفكير- كلنا سنموت! وعليه، يجب أن أقضي بقية أيّامي بحذر وتفكير؛ البعض يلجأ إلى الدين والتعبد والبعض إلى التعويض عمّا فاته، والبعض إلى التجدّد والانتاج، مثل سلمان ناطور.

– من هو سلمان ناطور الجديد؟ ماذا تغيّر عليك؟

ناطور: “في اللحظة التي يلامس فيها الواحدُ الموتَ، تسقط كلّ همومه اليومية. تصير حياته مختصرة في رغبة شديدة في انتهاء الألم. أريد أن ينتهي الألم. تتوقّف عن الاهتمام بأنك ستموت، أنت تريد وقف الألم وكفى! وفي قمة هذه اللحظة تشعر بنشوة غريبة، ممتعة في جانب كبير منها. والآن فقط أفهم ما قصدوه في تعبير “سكرة الموت”. أن تكون شاهدًا على ما يحدث لك: كنتُ أشعر بأنّ بالونًا في داخلي ينتفخ رويدًا رويدًا، وصار المشهد كأنني أمام طفل ينفخ بالونه وسينفجر في أيّ لحظة- وخلص. كنت أنتظر أن تنتهي هذه العملية، وكنتُ كالمتفرّج عن بُعد.”

من حسن حظّ ناطور –وحسن حظّنا- أنّ النوبة القلبية ألمّت به وهو في سيّارة الإسعاف التي كانت تُقلّه إلى المستشفى. كان في سيارة الاسعاف بين اليقظة والغياب، يغيب ثم يعود، كما قال، ثم يستيقظ ليسأل عن المكان الذي وصلوه حتى الآن. في “سكرة الموت”، في تلك اللحظات، تسقط كلّ الحسابات. ناطور: “نحن نستصعب الموت في يقظتنا الواعية، فنفكر بالأولاد والبيت والحياة والالتزامات. يُقنع المرء نفسه بأنّه لا يجب أن يموت. ولكن كلّ هذا يسقط في سكرة الموت. هي مواجهة في الأساس بينك وبين الموت، واحد على واحد. وفي تلك اللحظة لا مجال ولا يمكنك أن تتسلّى في تداعيات انتلكتواليّة فلسفيّة حول الموت وما سيحدث بعد ذلك وغيره من الأمور؛ في اللحظة الحقيقيّة كلّ هذا يختفي وينفجر البالون! لا يفيدك في تلك اللحظة أنّ معك خمسة ملايين دولار أو أنّ الناس تحبّك أو تكرهك، أو أيّ موقع سياسيّ أو اجتماعيّ احتللتَ أو أنك كاتب معروف مع كتب كثيرة- لا شيء يفيدك بالمرة.”

– هل هذا يعني أنك ستصبح عبثيًا أكثر؟

ناطور: “نعم. أخاف أن أتحوّل إلى عبثي أكثر. على الأغلب قد أصبح ساخرًا أكثر، هي سخرية من الحياة. أشعر الآن بأنّني لم أعد جدّيًا كثيرًا. اللقاء مع الموت يعطيك مفتاحًا جديدًا للحياة، تتعامل به معها.”

عندما يتحدّث ناطور عن العبثيّة أبتسم وأسأله من دون انتظار لجواب: “أكثر من هيك يا رفيق؟” يبتسم هو أيضًا. فمن كتب وأنجز “خمارة البلد” و”حكاية لم تنتهِ بعد” و”كاتب غضب” و”ساعة واحدة وألف معسكر” و”أبو العبد في قلعة زئيف” و”ما نسينا” ومسرحية “هبوط اضطراريّ”، وآلاف المقالات والكتابات والسخريات (هذه قائمة جزئيّة)- من كتب كلّ هذا لا ينقصه بالضرورة كمٌ جديدٌ من العبثيّة.

في مسيرته الطويلة والغنية شغل ناطور الكثير من المهام الأدبية والصحافية، بدءًا من التحرير في “الاتحاد” و”الجديد” و”الغد” وانتهاءً اليوم بـ “قضايا إسرائيلية” وإدارة “معهد إميل توما” في حيفا ونشاطات كثيرة أخرى. بعد النوبة يعلن ناطور بحزم: “سأقلص عملي ومشاغلي. مع الوقت سأركّز في مسؤوليتيْن أو ثلاث، وعليها سأصرف معظم وقتي. سأقلّص نشطات إداريّة، في جمعيات أو ندوات أو محاضرات، وسأكتب أكثر. أحسّ بجوع للكتابة. أريد أن أكتب كلّ ما لم أتمكّن من كتابته من قبل. سأعمل على إنجاز رواية بدأتُها قبل سنوات. سأستغرق في الأدب بدلا من الصحافة. سأدخل في حالة أدبيّة، ووصلتُ لقناعة بأنّ ثورة تحرير الانسان ليست على عاتقي وحدي. لا أملك قدرة وحدي على تحرير البشريّة من الإمبرياليّة والقمع. إذا خفّفتُ أنا فسيحمل غيري. وها أنا أعلن للبشريّة: متأسف، لن أحرّركِ بعد اليوم”!

– وهل ستجد من يكمّل عنك؟

ناطور: “نعم، يوجد، كمًّا ونوعًا. الكثير من الناس يعيشون الأحلام التي عشتُها. يحلمون بحلم إنسانيّ بأن يروْا البشرية متحرّرةً من الظلم والاستعباد والغطرسة والاحتلال. من الممكن ألا أقوم بعمل ما اليوم وأن يقوم غيري به.”

– نحن، الجيل الشاب، نتعامل معك على أنك معلم صديق، أنت وبعض الأصدقاء الآخرين، ممّن سبقتمونا. هل كان لكم، مثلنا، أصدقاء معلّمون؟

ناطور: “أنت تقول “معلّم صديق” ونحن كان لنا “معلم رفيق”. ففي الحزب الشيوعيّ الإسرائيليّ الذي كنتُ فيه كان هناك إميل توما وإميل حبيبي وعصام العباسي ومحمود درويش وتوفيق زيّاد، تعلمنا منهم الكثير. ولكنهم كانوا رفاقًا، بمعنى أنهم معلّمون أمْلوْا علينا فكرهم وطريقة عملهم. وكان شكل العلاقة أنهم معلّمون مُلقِّنون، وكان أخذٌ من دون عطاء. ونحن انصقلنا بهذه التجربة؛ هذا جيل مثل المنارة، نتطلّع إليها كلّ الوقت ونهتدي بها- مع الأخذ بالاعتبار حسنات وسيئات هذا.

“ومع جيلكم الشاب انبنت علاقة “معلم صديق” كما عرّفتَها. أنا شخصيًّا لا أرى في نفسي منارة وهناك من يمشي بهَديها. أنا مع الجيل الشاب أتعلّم منه، وهو يتعلّم مني بحكم سنواتي وتجربتي. أتعلّم من رؤية هذا الجيل وقدرته على توظيف الأداة العصريّة. الجيل الشاب اليوم يستطيع أن يُعَصرن أداته أكثر منّي. أنا أنظر بإعجاب إلى جيلكم، وأقصد الجيل المُنتج، في الصحافة والفنّ والأدب والفنون التشكيليّة، لأنهم استطاعوا أن يشقّوا طريقهم رغم الحالة السيئة والمغريات بأن يذهبوا في طريق أخرى. فشاب يكتب أو يحرّر جريدة، وآخر يكتب مسرحًا وآخر يؤلف موسيقى عربيّة، هؤلاء بالنسبة لي استمرار للعطاء، وفي نظري يمثّلون العمق في الابداع.”

– وهذا لم يكن في السابق؟

ناطور: “نحن ثقافتنا انبنت على معركة سياسيّة، وجيل اليوم يتعامل أكثر منّا من خلال الفن الخالص، والثقافة الخالصة، وهي في ذات الوقت متأثّرة بالمعركة السياسيّة. الأدب في سنوات الستين والسبعين، وأدب المقاومة، لا يمكن أن يُقيَّم إلّا من خلال التعامل معه في سياق مرحلته التاريخيّة. وهذا الأدب كان عظيمًا وسيبقى كذلك لأنه كان عظيمًا في مرحلته. تمامًا مثل المعلّقات، التي لو كُتبت اليوم لكانت بلا قيمة.

“وتوجد اليوم، أيضًا، مجموعات شبابيّة تنجح في الإفلات من شبكة العولمة والأسرلة. هذا الأمر ليس مفهومًا ضمنًا في وقتنا، لأنّ القضية ليست سهلة بالمرّة. ما يريحني في هذا الجيل ويبعث على التفاؤل أنّه ليس جيلاً متقوقعًا، ولكنه ليس ضائعًا بسبب الانفتاح. وهو محافظ على شخصيّته، ولكنه ليس متشنّجًا- وهذه بطولة ليست هيّنة بالمرة.”

– وجيلكم؟

ناطور: “لجيلنا كانت قضية محدّدة؛ وُلدنا في قضية وكان العالم أيديولوجيًا ومقسّمًا إلى قسمين: الخير والشر، الاشتراكية والرأسمالية، الأبيض والأسود، الشعب والسلطة. كان العالم واضحًا. اليوم العالم غير واضح، لدرجة تخربط المشهد العالمي. كل شخص على مستوى الفرد بحاجة لتوضيح مواقفه الخاصة. بالنسبة لنا وقتها كان يكفي الانتماء. اليوم على الواحد أن يجتهد في كل صغيرة وكبيرة كي يبني موقفًا واضحًا. واليوم، يوجد جيل جديد قادر على الاجتهاد وتحديد موقفه من شعبه والحق والعدالة.”

دخان كثيف

من الصعب الجلوس إلى سلمان ناطور لأكثر من ساعتين وعدم التدخين. فمع الكثير من الاستحباب يمكن القول إنّ ناطور كان “مِدخنة” متنقّلة، ولكن نبذ السجائر هو من علائم المرحلة الجديدة، والحديث له: “سلمان ناطور الجديد من دون سيجارة. هذا أمر جديد جدًا في اليومي. لقد طلّقتُ الدخان بشكل مبدئي وكنتُ في الماضي أدخّن أيضًا بشكل مبدئي. كنتُ وما أزال أدافع عن الحقّ في التدخين، من دون أن يُقمع مثلما تفعل أمريكا اليوم.”

– أليس صعبًا عليك تطليق الدخان؟

ناطور: “أحيانًا. وهناك حتى عوارض فيزيولوجيّة بحتة. ولكنني تخلصت من عادة بدء نهاري بسيجارة وغلاية قهوة وجريدة. صرتُ أترك الجريدة لبعد الفطور. لقد تحرّرتُ من جريدة الصباح وغلاية القهوة والسجائر الخمس، التي رافقتني منذ ثلاثين سنة.”

سلمان ناطور بدأ بالعودة إلى مزاولة روتين “طبيعيّ” بعد الاستراحة والنقاهة. فاليوم، الجمعة، سيدير أمسية عن الراحل هشام شرابي في قاعة مسرح “الميدان”؛ في السادس من نيسان سيسافر إلى أيطاليا للمشاركة في مهرجان “بادوفا” المسرحيّ، وبعدها “ما في شي مبرمَج”.

وناطور يعلن أيضًا أنه سيقضي أوقاتًا أكثر في البيت، “سأصير بيتوتي أكثر. سأتفرّغ للأصدقاء. ففي السنوات الأخيرة قطعتُ علاقاتي الإنسانيّة والاجتماعيّة وأحسّ بتأنيب ضمير على ذلك. هذه ليست طبيعتي، فأنا أهتمّ بالواجبات الإنسانيّة والاجتماعيّة وسأوليها حقّها”.

(11 آذار 2005)

تعليقات (0)
اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *