تسجيل وقائع اللقاء

لم يكن مريحًا أبدًا أن يرى عنات بعد هذه المدة الطويلة وهو بهذه الوضعية. لماذا لا يصلح الإبزيم في محفظته الجلدية؟ لو كان أصلحه لما كان الآن يركع على ركبتيْه يحاول تجاهل نظراتها وهو يجمع محتويات المحفظة.

“أهلا.”

قالها بصعوبة بالغة. كان ينفض الغبار عن بنطاله عند الركبتيْن. جلس إلى كرسيه الوثير ولم يحر صنعًا.

“أهلا”، قالت مبتسمة (جدًا).

“أهلا.”

“لم يتغير مكتبك كثيرًا”، قالت وهي تجول بنظرها على الحيطان. نفس اللوحات.

“نعم.”

قامت إلى الحائط المجاور للشباك وتطلعت عن قرب إلى لوحة سمير المفضلة: الرقصة لماتيس.

“ما زالوا يرقصون”، قالت وأفلتت منها ضحكة صغيرة.

“نعم.”

عادت إلى مكانها.

“ألن تضيفني بفنجان قهوة؟”

“بلى، متأسف.”

قام بسرعة وخرج من الغرفة. كانت طالي تعدّ القهوة لنفسها عندما اقترب سمير. كانت تبتسم له تلك الابتسامة التي تعني: يا شقي!..

“أهلا طالي.”

“أهلا سمير.”

“هل تدبرتم من دوني؟”

“تدبرنا جدًا. لا أعلم كيف سنتدبر معك الآن.”

ابتسما. طالي من أكثر الفتيات اللواتي يستلطفهن سمير. مرحة، ذكية، تقرأ كثيرًا وحسّاسة للغاية. من النادر جدًا أن تصادف فتاة مثلها تحمل كلّ الصفات معًا. كان من السّهل عليه دائمًا أن يتحدث إليها عن المواضيع التي يريد، حتى المواضيع الأكثر حساسية. لذلك وجد نفسه يسألها:

“أتذكرين ليمور، ابنة المديرة القديمة؟”

“التي رميتَ بها إلى الجحيم؟”

“لن أجادلك على الصياغة الآن، ولكن نعم. أنت تذكرين بالطبع أننا انفصلنا بسبب واحدة أخرى، عنات.”

“نعم، أذكر أنك حدثتني عنها وقتها.”

قام بالاشارة برأسه إلى جهة غرفته، بما يعني: هذه هي.

“مثير للاهتمام، امرأة جميلة عليّ الاعتراف.”

“نعم. ولكنني دخلت اليوم إلى مكتبي لأجدها تنتظرني في الداخل. منذ سنتيْن لم أسمع منها وها هي في مكتبي الآن تودّ شرب القهوة.”

“تماسك يا أخي”، قالت طالي مبتسمة بما لا يخلو من الكثير من السخرية… “ولكن لحظة، كيف كنتما سوية لسنتين ولم تزرك في العمل مرة واحدة؟”

“بل زارتني الكثير من المرات”، قال وهو يتوجّه إلى غرفته حاملا كوبين من القهوة التركية السوداء.

“وأين كنت أنا؟”

“تعالي نقول إنّ أحدًا لم يكن موجودًا عندها، كنتم نائمين في البيت مثلا…”

“أيها الوغد! تستغل مكان عملك لخلواتك الشخصية؟”

كان سمير قد أغلق الباب من خلفه.

“وضعت لك ملعقة واحدة من السكر، أنت تحبينها هكذا على ما أذكر.”

“هل أحسب هذا إطراءً بأنك تتذكر معيار قهوتي؟”

“تعالي نسميه اعتيادًا لا يستسلم للنسيان بسهولة.”

“كيف حالك؟”

“جيد. ويمكنني القول جيد جدًا.”

“عظيم، يسرّني سماع ذلك.”

“قد يهدئ ذلك من الشعور بالذنب لديك، أنّ حالتي جيدة جدًا.”

“ليس هذا، ببساطة أنا أسر إذا ابتسمت الحياة لمن أحبهم.”

“من الرائع أن أعرف أنني أنتمي إلى من تحبينهم.”

“كفاكَ مقارعة، لا تكن سلبيًا لهذه الدرجة!”

“أعذريني، أعذريني حقا إذا كنتُ سلبيًا بعض الشيء معكِ فتركُكِ لي بعد سنتيْن بواسطة ورقة على طاولة المطبخ لا يستأهل سلبية مني. أنا مجرد إنسان حاقد جحود.”

“سمير كفى!.. لم آتِ إلى هنا للعتاب وتصفية الحسابات.”

“يسعدني ذلك جدًا.. أنت جئت للاطمئنان على حالي فقط. هذا يسعدني جدًا.”

“لم أجئ من أجل ذلك فقط.”

“وإنما؟”

“هل يمكنني رؤيتك خارج العمل؟.. أن نلتقي مثلا في مطعم أو ربما بار؟”

“وما الداعي؟.. لا أعتقد أنّ هناك سببًا يجعلني أفعل ذلك. إذا كان هناك ما تودّين قوله فالأفضل أن تقوليه الآن وهنا.”

“سمير، أعطني فرصة، ما أودّ قوله لك لا يصلح لأماكن العمل.”

“ولأية أماكن يصلح؟”

“ما زلتَ عنيدًا كالثور.”

“لستُ ملزمًا بسماع آرائك عن شخصيتي، استمعت لها سنتيْن كاملتيْن وهذا كافٍ لكلّ العمر.”

قام بسرعة واستدار نحو الشباك.

“أنا آسفة. لم أقصد أن أستثيرك أبدًا.”

“لا بأس”، قال وكأنه يخاطب البقال في أسفل الشارع.

“هلاّ أصغيتَ إليّ قليلا؟”

استدار ونظر إليها: ما الذي تودينه مني الآن؟.. هل أبدو لك قويا كفاية لأصدّكَ؟.. هل ترغبين بتسلية جديدة؟.. هل اشتقتِ لممارسة الجنس على هذه الطاولة؟.. لماذا أصغي اليك بحق الجحيم وأنا قد نسيتك تمامًا؟… أو أوشكت على ذلك؟

“تفضلي”، قال وهو يجلس ويتطلع إليها.

“سمير. لم آتِ إليك لأغضبك أو لأتسلى أو كما قد يخطر في بالك للحظة لأمارس الجنس معك على هذه الطاولة. مجيئي إليك اليوم هو صعب عليّ كما هو بالنسبة لكَ. وربما أكثر. هل تعلم أنني أؤجل هذه الزيارة منذ أكثر من أسبوعين؟.. في كلّ يوم وددتُ فيه المجيء أجّلت الأمر للغد. هل تعتقد أنه من السهل عليّ الجلوس أمامك الآن واستجداء انتباهك؟”

“حسنًا، أنا مُصغٍ.”

“دعنا نتقابل هذه الليلة.”

“البرازيل ستلعب مع هولندا هذه الليلة.”

“بعد اللعبة. أو إذا أردتَ يمكنني لقاؤك في البار إياه في زقاقنا. لديهم تلفزيون هناك.”

“حسنا، ليكن.”

“لنقل في الحادية عشرة والنصف. تكون اللعبة قد شارفت على الانتهاء وتكون أنتَ قد طيّبت مزاجك بكأسيْن أو ثلاث من البراندي.”

“حسنا.”

“شكرًا لك.”

“إلى اللقاء.”

لم يمدّ يده لمصافحتها ولم يرافقها إلى الباب. “زقاقنا”، قالت. ما زالت تسميه زقاقنا. لم يذهب إلى هناك منذ وقت طويل. تُرى هل رمّموا الحيطان القديمة وعبّدوا الشارع الرّث؟.. عليه ألا يفكر كثيرًا في الليلة، فلديه الكثير من العمل والكثير من الجدالات والمشاجرات ليخوضها مع ادارة المتحف، حول التقليصات. ثم هو ليس بحاجة لذرائع لعدم التفكير فيها، هو لن يفكر فيها وفقط. حتى لو ظل يتطلع إلى رقصة ماتيس وظلّ في حيرة من أمره حول إذا ما كان عليه دعوتها إلى معرضه الحالي أم لا. هو ببساطة لن يفكر فيها…

(إلى صفحة الرواية)

تعليقات (0)
اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *