النهاية

فلتمطر الآن.

فلتُغرق الأرض والزرع ولتقلع السّدود من أماكنها وليثُرِ البحرُ. لتمطر الآن.. فيغرق الهَدار اللعين في مجاريه الآسنة وينخسف الكرمل بعماراته البنية الإسمنتية. فلتمطر الآن، ولتكن هذه الأمطار آخر قطرات ماء تنزل فوق هذه المساحة من الأرض. ولتتحوّل الأرض بعد ذلك إلى جدباء قاحطة، لا تُنبت إلا الشّوك ولا تسكنها إلا الأفاعي والحشرات التي تتصارع على بقائها. ولتغرق الناس كلها ولتتحول جثثها الملوثة بالحقد والكراهية والجّحود إلى غذاء لجوارح السماء ولقوارض الأرض. ليكن هذا الشتاء الذي يحبّه حتى الكآبة آخر شتاء يحمل إلى الناس بذور الحياة وهدأة الطبيعة. ليكن هذا الشتاء آخر شتاء يحمل الخير والماء وليكن أوّل شتاء يحمل الكبريت والأحماض ورائحة الحرب.

فلتمطر الآن، وليكن المطر أكثر ثقلا من الرطوبة الخانقة في الجوّ، والنشرة الجوية تعلن ارتفاعًا طفيفًا في درجات الحرارة. فليأتِ المخلص على حماره ليطرده أشقياء الحواري وليسرقوا زوادته وليتراهنوا على ثوبه وليبيعوا حماره بخمسين قرشًا حقيرة. لتأتِ الساعة الآنَ ولينتهِ كلّ شيء. فلتفتحِ السماء أبوابها وتبتلعه ولترمِ به إلى وادٍ سحيقٍ لم يسمع به أحد ولم يرَه أحد. فليحزم بؤسه وقرفه وليرحل. حيفا تحوّلت إلى همّ ثقيل وكابوس لا ينتهي.

فلتمطر الآن!

من الذي يهاتفه في هذا الصباح اللزج اللعين؟ لو كان يملك ما يكفي من النقود لكان الآن يحتسي كوب القهوة الثالث في “المقهى الصغير”. لو كان يملك ما يكفي من النقود لكان الآن ينام على سريره الذي باعه قبل أسبوع أو أكثر. فلتمطر الآن، وليكن هذا الشتاء آخر شتاء يحلّ على حيفا، ولتكن كلّ أيامها بعد اليوم جافة مقززة.

من يتصل الآن؟.. لماذا لا يضع الساعة بقربه أبدًا؟ ما السّاعة الآن؟ هل تبقى عنده بعض القهوة في الثلاجة؟ لا يذكر بالضبط ولكن عليه التذكر الآن ليقرر النهوض أو العودة إلى غيبوبته المنهكة. ضلوعه تكاد تتكسّر من النوم المستمرّ ورأسه تكاد تنفجر. قم إبحث عن عمل، أم أنّ الفنان الكبير لا يلائمه شغل العامة؟.. فلتمطر الآن لأنه سيقوم ليكسر الهاتف اللعين ألف مرة…

“سيد خالدي، أنت لم تدفع للآن أيجار القاعة.. يؤسفني إعلامك بأننا سنضطر لإنزال أعمالك قريبًا جدًا إذا لم تأتِ إلينا حالاً. شكرًا.”

المهم أنّ فرنسا اكتسحتِ البرازيل. هؤلاء المتعجرفون، يعتقدون أنّ بوسعهم أن يصبحوا أبطال العالم إذا تسكّعوا في الملعب من دون الركض واللعب الجيد. هايدي فرنسا! سيقوم الآن ليتوّج زيدان صلاح الدين الجديد، سيكلله بإكليل من الغار وسيمسحه بالزيت والعقيق والنبيذ المقدس؛ فلتحيَ الوحدة العربية..

“آلو، آلو، آلو.. أولاد الزانية!”

الساعة الثالثة. وماذا يعني إذا كانت الثالثة أو التاسعة أو منتصف الليل؟ لا شيء يعني شيئًا الآن. حتى إنّ غطاءه المثير للقرف برائحته الكريهة لا يعني له شيئًا الآن؛ حتى جسده الذي لم يرَ الماء لأكثر من أسبوع.

“أنا بخير يا أمي، أرجوك أبي ألا تقلق عليّ.. كل الأمور بخير، أنا لا أجيء إلى القرية لانشغالي بمعرض كبير.. أوضاعي المادية ممتازة.. سلّم على جدي.”

إذا كان صاحب الشقة من اتصل فإنه سيُشبعه ضربًا عندما يأتي. لقد اتصل بالتأكيد ليتأكد من تواجدي في البيت.

“لا يمكنكِ طردي من العمل.. هل ستنتقمين مني على غلطة ارتكبتُها قبل سنوات خلت؟.. لا، أنا لم أضاجع ابنتك من أجل تقدمي في العمل.. ولكن، من ناحيتي فلتذهبي إلى الجحيم أنتِ ومتحفك!”

ماذا لو حاول الاتصال بجولي ثانية؟.. لا، الاتصال إلى فرنسا يكلف الشيء الفلاني وهو قد سئم من الموظفين الذين يطلبون منه الانتظار ثم يعودون بعد نصف ساعة ليسألوا من جديد عمّا يريده. من جهته فلتذهب جولي ونقودها إلى الجحيم.

“يمكنكِ البقاء إذا أردتِ فأنا قد اعتدتُ على وجودك معي… حسنًا، إسمعي، بإمكانك إعطائي النقود التي ستدفعينها لزميلتك في الشقة وبهذا ستشعرين بأنك في بيتك وأكثر.. كما تريدين..”

“سيد خالدي، هل أنتَ في البيت؟.. على كلّ حال يؤسفني إخبارك بأننا أنزلنا أعمالك عن الجدران وعليك دفع عشرة آلاف شيكل لقاء أجرة القاعة ومصاريف طباعة الكاتالوج والضيافة وغيرها.. إتصل بي فورًا لو سمحت.”

من يأتي اليه الآن؟.. قام وأشعل الضوء. الشقة عفنة حتى القرف. رائحة النفاية في المطبخ تطغى على كلّ شيء. لو كان معه ما يكفي من النقود لاشترى موادّ تنظيف وأعاد الشقة إلى الوضع الذي يحبّه. “الناقدة الفنية” تقف بالباب حاملة حقيبة جلدية بنية. هي بالذات، التي احتقرها وعاملها بفظاظة واستخفاف، تتذكّره الآن. بعد ألف قرنٍ من البؤس، بعد مئة عام من الألم. هل مضى أكثر من يوميْن؟.. تأتي إليه. ربما علمت بفصله من العمل وبما حدث مع أميرة وعباس.

“كيف حالك؟”

“شكرًا.”

“ألن تدعوني للدخول؟”

“لا، أقصد بلى.. الشقة وسخة جدًا و… الرائحة، تعلمين..”

“لن أموت من الرائحة.”

“تفضلي.”

يودّ أن يشكرها. إنها الشخص الأول الذي يدخل شقته منذ أكثر من أسبوعيْن. وهي الشخص الأول الذي يشاهده منذ أكثر من أسبوع. منذ عدم خروجه من الشقة بالمرة.

“ذقنك طويلة.. تبدو من رجال حماس.”

ابتسمتْ. ابتسم أيضًا. فليجاملها، لِمَ لا؟

“تشربين شيئًا؟”

“شكرًا.. لا تتعب نفسك.”

الشقة تثير القرف حقًا. أخذتْ تجيل النظر على الأثاث والسّجادة الحمراء. الغبار على كلّ شيء ورائحة النفاية القادمة من الداخل تعشّش في الأنف. لم يكن من الصعب عليه أن يعرف فيما تفكر.

“أنتِ تستغربين القذارة الصارخة بالطبع. أنا أمرّ في فترة صعبة ولا أجد القوة الكافية للتنظيف…”

“هل أنت مريض؟”

“لا، لا، وددتُ لو كنتُ مريضًا.”

“ما بك إذًا؟”

“أرجوك.. لا تتساذجي الآن، أنت تعرفين بالضبط ما بي.”

“صدقني أنني لا أعرف.”

“حسنًا، أنا مفلس. إذا كنتِ جئتِ في مبعوثية لتستكشفي أوضاعي وتخبري الجميع بوضعي فاطمئني.. وضعي سيء ويثير الشفقة.. أسمعتِ؟.. سمير الخالدي، الفنان العظيم، وحيد ومفلس وسيموت من الجوع بعد يوم أو اثنين.”

لم ينوِ البكاء أبدا في حضرة “الناقدة الفنية”. لم يخطط لمثل هذا يومًا، أن يبكي هو، ذليلاً، جائعًا، قذرًا أمام “الناقدة الفنية”.

“لا عليك سمير، ستُفرج.”

مدّت له بمنديل. أخذه من دون أن ينظر إليها ومسح دموعه.

“أعذريني.. أنا متوتر قليلا.. أعذريني..”

“هل يمكنني مساعدتك بشيء؟”

“إذا وجدتِ من يشتري سيارتي العطبة بأكثر من ثلاثة آلاف شيكل اتصلي بي أرجوك.”

لم يودّ أن يبدو ساخرًا في هذه اللحظة. على الأقلّ في بحثه عن مُشترٍ لسيارته البالية. قامت “الناقدة الفنية” واتجهت نحو الباب.

“سأحاول أن أجد شاريًا لسيارتك. لو كان معي نقود لاشتريتها منك.”

“شكرًا.”

كان ينظر إلى الشارع المكفهرّ اللزج. أغلقتِ الباب. أسرع إلى الضوء وأطفأه. هكذا أفضل. فلتمطرِ الآن! على الأقل بوسعه الاغتسال إذا خرج إلى الشرفة. لم يعتقد يومًا أنه بوسعه التدهور إلى هذا الوضع. كان يبذر معاشه الشهري على المشروب والطعام والكتب الكثيرة. طوال السنين الثلاث أو الأربع بعد الجامعة لم يدّخر قرشًا واحدًا. والقرش الأبيض كما تعلمون لليوم الأسود. واليوم هو أسود. أسود حتى العمى وانعدام البصر. أسود حتى الظلام الدامس، حتى النوم والانحلال في غيبوبة مخلّصة. فلتمطرِ الآن، ولتغرق الناس كلها ولتتحول جثثها الملوثة بالحقد والكراهية والجحود إلى غذاء لجوارح السماء ولقوارض الأرض. ليكن هذا الشتاء الذي يحبه حتى الكآبة آخر شتاء يحمل للناس بذور الحياة وهدأة الطبيعة. ليكن هذا الشتاء آخر شتاء يحمل الخير والماء وليكن أول شتاء يحمل الكبريت والأحماض ورائحة الحرب.

المائدة جُهّزت والطعام حاضر. كان يحبّ لو تناول هو وأميرة هذا العشاء وحدهما. لربما كان يعرف بأنه سيكون العشاء الأخير. جلسوا إلى الطاولة واهتمّ أنور بالجلوس في وضعية تمكّنه من متابعة أحداث المباراة. الجرس يُقرع. قام سمير لأنه الأقرب إلى الباب. شكرته أميرة على ذلك. عباس في الباب! ماذا يفعل الآن؟.. لينظر إلى وجهه على الأقلّ، ليُظهر علائم مودّة ولو كانت لا تجدي.. لتنشق الأرض ولتبتلعه.

“أهلا..”

“أهلا سمير.”

دخل عباس رأسًا إلى الصالة. ألقى التحية، تبعه سمير.

“أهلا عباس”، قال أنور وسامية سوية.

“حماتك بتحبّك”، استمر أنور.

لم تبدُ أميرة متفاجئة. انتبه للمرة الأولى أنّ أميرة قد حضّرت صحنا وشوكة وسكينا إضافية. يا إلهي، ما الذي يحدث هنا؟

“تفضل عباس، مكانك هنا.”

جلس عباس إلى الطاولة، بالقرب من أميرة. لم ينتبه إلى أنّ وقفته هذه طالت أكثر من اللازم.. ما الذي يحدث هنا؟

“سمير، أنت تعترض الشاشة، إبتعد قليلا يا أخي..”

الجميع يتناول عشاءه بهدوء. سامية تنظر إلى عباس وأميرة من مرة لأخرى وكأنها تتحين فرصة مناسبة لأمر ما.

“أنور وسامية خطبا”، قالت أميرة لعباس.

“هذا ممتاز”، قال عباس، “متى تمّ ذلك؟”

“في بداية الأسبوع، كانت على الضيّق.”

“مبروك.”

“ومتى ستهجران أنتما عشّ العزوبية إن شاء الله؟”

“بعد شهر على الأكثر”، أجاب عباس من دون أن توحي علائمه بسعادة ما.

“هذا عظيم.. أنور أتسمع؟”

“نعم، سمعت، هذا عظيم.”

ماذا يعني هذا الكلام؟ هل سيتزوّجان حقا. كان سمير ينظر إلى أميرة بشكل مفضوح. لم تكن تنظر إليه أو إلى أيّ مكان محدّد. كانت تعبث بالطعام في صحنها من دون أن تأكل. عباس لا ينظر إليه وهو لا ينظر إليه. هكذا أفضل. سينجح في المحافظة على هدوئه على الأقل. تبرّع سمير بتنظيف طاولة الطعام وسامية بصنع القهوة. أميرة ستنظف الأطباق. إعتقد سمير أنّ صنع القهوة سيستغرق سامية العمر كله. لم تكد تتجه إلى الصالة حتى همس صارخًا:

“ماذا حصل؟!”

“لقد سمعتَه جيدًا.”

“ماذا تقصدين؟.. هراء.. هكذا فجأة يقرر أنكما ستتزوجان؟”

“ليس فجأة.. لقد تحدث معي قبل قليل في الهاتف وأخبرني بأنه يغفر لي ما فعلته. قال إنه يحبني كفاية ليغفر لي خطئي.”

“وأنا؟.. وأنتِ؟.. أنت لا تحبينه.”

“وما أدراك أنتَ؟.. أنا أحبه. اكتشفت طوال الأيام الأخيرة التي قضيتها وحدي أنني أحبه.”

“وأنا؟”

“ما بكَ أنتَ؟.. أنتَ لا تحبني.. لم تحبني يومًا، اشتهيتني فقط كما تشتهي كل النساء في حياتك.”

“لا، هذا ليس عدلا ما تقولين.. أنا”-

“وعبلة؟”

“ما بها؟.. عبلة قصة قديمة جدًا وانتهت، لا أدري لماذا”-

“قديمة؟.. وليلة البارحة؟”

صمت. كيف علمتْ بليلة البارحة؟ عبلة الزانية!

“ألن تأتي لشرب القهوة حبيبتي؟” كان عباس يقف خلف أميرة.

“حالاً.”

عاد إلى الصالة. لقد تجاهله كلية. لم يتكلم معه منذ أن دخل والآن ها هو لا يدعوه إلى القهوة حتى.. كأنه غير موجود، كأنه لا ينشف الأطباق بالقرب من أميرة. وماذا توقع منه؟.. أن يحتضنه؟.. أن يرتمي في أحضانه ليصالحه. فليحمد الله أنه لم يشبعه شتائمَ ومسباتٍ ولكماتٍ عندما دخل. عليه أن يذهب. استأذن بسرعة ولم يترك مجالا لاعتراضات أنور وتساؤلات سامية. خرج وأسرع نحو شقته. دخل إلى الحمام وأغرق نفسه بالمياه الساخنة. بكى كالطفل. كالطفل بكى. لقد انتهى المشهد الطويل وفقد أعزّ شخصيْن في حياته. فليستعد للمشهد القادم.

فلتمطرِ الآن. فتمتلئ الأرض بالمياه وليأتِ الطوفان. فهو لن يخسر شيئًا. لو بقيت ليليان عنده لكانت الشقة نظيفة ولكان شبعًا الآن. لو استطاع التحدّث إلى جولي التي اختفت بعد أن وعدته بشراء معرضه هنا لكان يعدّ الدولارات بلذة. إذًا فهي كانت تستغله. أوهمته بأنه فنان عظيم وبأنّ الجامعين في نيويورك وباريس يتلهفون لرؤية أعماله. عشّمته عشم إبليس في الجنة وهي لم تبغِ منه سوى قضيبه. قضيبه الذي أتعسه وهو الذي تخيّل أنه سيسعده.

فلتمطرِ الآن ليهدي قضيبه للريح. عنات ذهبت مع الريح. عادت لتودّعه قبل ذهابها إلى الهند مع زوجها وحبيبها.

“أنت ستتفهمني بالتأكيد.. لن تحقد عليّ يومًا فأنا أعرفك جيدًا.. تمنّ لي حياة سعيدة.. سأتذكّرك ما حييت.”

حيفا تمدّ له لسانها.. ما هذه النهاية تبًا؟.. فلتمطر الآن. سيأخذ من والده النقود ليدفع لصاحبة القاعة الزانية وليدفع لصاحب الشقة ابن الزانية وليدفع دينه المتضخّم للبنك، وليشتري خبزًا ونبيذًا. وسيبدأ من جديد. سيعود ليصبح فنانًا كبيرًا كما كان وسيذهب إلى زيارة الدال نقطة في بيته الذي اعتزل فيه في أعالي الجولان القارس. لو كان معه ما يكفي من النقود لاشترى قنينة نبيذ فاخر ولذهب إلى الدال نقطة ابن الزانية وشربا سويًا نخبًا أخيرًا، قبل أن يبدأ من جديد.

فلتمطرِ الآن. يا لها من نهاية.

فلتمطرِ الآن، ولتكن هذه الأمطار آخر قطرات ماء تنزل فوق هذه المساحة من الأرض. ولتتحوّل الأرض بعد ذلك إلى جدباء قاحطة، لا تُنبت إلا الشّوك ولا تسكنها إلا الأفاعي والحشرات التي تتصارع على بقائها. ولتغرق الناس كلها ولتتحوّل جثثها الملوثة بالحقد والكراهية والجحود إلى غذاء لجوارح السماء ولقوارض الأرض. ليكن هذا الشتاء الذي يحبه حتى الكآبة آخر شتاء يحمل للناس بذور الحياة وهدأة الطبيعة. ليكن هذا الشتاء آخر شتاء يحمل الخير والماء وليكن أول شتاء يحمل الكبريت والأحماض ورائحة الحرب.

وسيبدأ من جديد…

(إلى صفحة الرواية)

تعليقات (0)
اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *