العشاء الأخير

لم تتفوق أميرة يومًا في تحضير الطعام. كان ينقصها “النَفَس واللمسة الخاصة المطلوبان لجعل الطعام أكثر من تفاعلات كيميائية فوق نار حامية”. كانت هي تغتاظ وتكاد تنفجر غضبًا لهذه الجملة.

“كفاكَ فلسفة أرجوك!”

“هذه ليست فلسفة.”

“وأنت تملك “النفس” المطلوب لجعل الطعام أكثر من تفاعلات كيميائية فوق نار حامية؟”

“بالطبع!” كان يضحك.

كان هذا الجدال يتكرّر عادة، ربما باختلاف قليل في الصياغات. على الأغلب كان ينتهي بعنف جسديّ تبادر إليه أميرة. هو كان يُسرّ جدًا لهذه الجدالات لأنه كان يحبّ إغاظتها. تغتاظ بشكل رائع، أميرة. تحسّها لوهلة بأنّ لا شيء على الإطلاق بإمكانه صدّها عن قتلك في الحال. هذه الشجارات بالنسبة له هي الفلفل والبهارات لعلاقتهما، لأنها كانت تنتهي دائمًا فوق الفارسية الحمراء. أغلب الظن أنها لن تنتهي اليوم على الفارسية الحمراء. أولا، لأنهما في بيتها وثانيًا، لأنه لا يعرف البتة ما إذا كان هذا ما يجب أن تؤول إليه الأمور.

“هل ما زلتِ تصرّين على عدم تدخلي في الطعام؟”

“نعم. يمكنك الاستمتاع بالقهوة والتمدّد أمام التلفاز.”

“ولماذا تُصرّين على عزلي عن الطهي اليوم؟”

“هكذا، مزاج..”

“ربما تودّين منذ الآن الاعتماد على نفسك في تحضير الطعام.. يعني بدوني.”

“ربما.”

كانت رائحة الثوم مع الزيت والليمون في المقلى مُغرية إلى الحدّ الذي جعله يقترب من أميرة ويحاول معانقتها من الخلف.

“لا داعيَ لذلك.”

لم يستسلم بسهولة. أحاطها بيديه فانتفضت بسرعة.

“سمير، كفى!”

“لماذا هذه السلبية؟”

“مجرد احتياط.”

“إحتياط من أيّ شيء؟”

“ممّا قد تفكر في القيام به.”

“حسنًا، آسف.”

أخذ كوب القهوة واتجه نحو الصالة. التاسعة والنصف. نصف ساعة على المباراة. شغّل التلفاز. كان المذيع يحاور هيئة المعلقين الدائمين في الأستوديو. “ما أغباكم”- أعادها للمرة الألف في هذا المونديال.

“هل غضبتَ؟”

“لا.”

“إذًا تذوّق من هذا قليلاً.”

كانت تحمل في يدها صحنًا صغيرًا وملعقة.

“إنها المرة الأولى التي تسمحين لي فيها بتذوّق ما تعدينه من دون الصراخ والطرد.”

“لنقل إنها بادرة خير.”

لم تكن قطع الدجاج الصغيرة السّابحة في مرقة الخردل بالعظيمة. ينقصها القليل من الكمّون والكثير من الصّويا.

“لا بأس.”

“لا يعجبك.”

“بالعكس، إنه جيد جدًا.”

“المنافق يظلّ منافقًا.”

“هذا ليس عدلاً، طلبتِ مني التذوّق ففعلتُ. أنا أقول إنه جيد جدًا.”

“ولكنه ليس ممتازًا.”

“من الصّعب جدًا طهي شيء يكون ممتازًا.”

“أنا بحاجة للنفس واللمسة الخاصة اللذين…”

“كفى أرجوكِ.”

الهاتف يرنّ.

“آلو… أهلا.. لا، أبدًا… لحظة لو سمحت…”

سحبت خيط الهاتف الطويل وهمست بعد أن غطت السماعة بيدها جيدًا:

“إنه عباس.”

توجهت إلى غرفتها.

عباس. يا إلهي، عباس! ماذا حلّ به؟.. لماذا يتصل الآن؟.. هل يريد إخبارها بأنه سامحها وأنه يودّ الرجوع إليها؟.. لا، ليس بهذه السرعة، لا أحد يصفح بهذه السرعة. خصوصًا آل الجنوبي. عبلة صفحت له بسرعة. لم يمرّ أكثر من شهر حتى عادت إليه. كانت ساعة رائعة عليه الاعتراف. من الصّعب تحديد أيّ من الإثنين كان ألذّ: النبيذ أم عبلة؟ ربما لم يكن عليه الاستسلام لها البارحة. لو أبدى قليلا من التمنع وأجّل الأمر ليوم أو اثنين لكان يشعر الآن بقليل من الاحترام لذاته. ترى لو كان امرأة، هل كان نشاطه الجنسي سيكون بهذه الوتيرة؟.. كان سيخجل ربما من ذلك وربما كانت تربيته كفتاة ستقمع رغباته على حساب العادات والقيم الاجتماعية. القيم البالية المبنية بشكل مطلق على الجنس وعدمه. ربما لو كان امرأة لتحول إلى “فرشة الرفاق”.

حدثته عنات مرة عن صديقة لها في سلاح الاستخبارات تحوّلت مع الوقت إلى المتنفس الجنسيّ في الكتيبة. في البداية كان لها صاحب تحبّه. بعد فترة تركته وأحبّت صديقه، وأخذت مع الوقت تمارس الجنس مع كلّ طالب وراغب. حتى إنّ الأمر وصل إلى دخول من شاء من الكتيبة إليها في الليل ومضاجعتها. أحيانا بلا إحم ولا دستور.. الفتاة التي تصل إلى هذا الوضع في الجيش تُسمى “فرشة الرفاق”.

الباب يُقرع. اتجه نحو أميرة وأطلّ من باب الغرفة. كانت تنصت لعباس ولم تنتبه إلى سمير إلا عندما هزّها من كتفها وأشار إلى الباب باصبعه متزامنًا مع دقة أخرى عليه. غطت أميرة السماعة بيدها وهمست:

“إذهب وانظر من يكون.”

إقترب من الفتحة في الباب. أنور وسامية. تبًا، ما الذي جاء بهما الآن؟ عاد إلى أميرة وهمس: “إنهما أنور وسامية.”

“إفتح لهما الباب، سأنهي حالاً.”

“أهلا، أهلا بالرفاق.”

“سمير، يا للمفاجأة. ماذا تفعل هنا؟”

بدا له سؤال سامية مُبطنًا وينمّ عن خبث.

“إشتقت لأميرة فقلت أزورها قليلا. وأنتما؟.. أهلا أنور، ما هذا؟ نبيذ؟”

“نعم، وجيّد”، قال أنور وهو يغلق الباب.

“أين أميرة؟.. ما هذه الرائحة الشهية؟”

“إنها تتكلم في الهاتف. تفضلوا.”

سامية وأنور بهندام مرتب. هل دعتهما أميرة إلى العشاء من دون علمه؟.. دخلت أميرة إلى الصالة.

“أهلاً، أهلاً، ما هذه المفاجأة السعيدة؟.. لم تزوراني منذ أكثر من سنة.”

“معك حق، نحن مقصرّون جدًا معك، كنا ننوي حضور مسرحية في المسرح البلدي ولكنّ التذاكر كانت قد نفدت، فقررنا زيارتك. وإذا عرفت أنني وأنور قد خطبنا فإنك لا بد ستغضبين؟”

“عَنجد؟.. متى؟.. كيف فعلتم هذا من دون دعوتي؟”

“صدقيني لم ندعُ أحدًا، أليس كذلك أنور؟”

إلتفتت إليه مبتسمة، فردّ الابتسامة هازًّا رأسه بالأيجاب.

“لقد احتفلنا على الضيّق.. أهله وأهلي، تعرفين، العائلة فقط. لم نُرد توسيعها أكثر من اللازم للتوفير في المصاريف.”

“أيها الأشقياء.. أليس هذا رائعًا سمير؟”

“بالطبع، بالطبع، إنه شيء رائع. مبروك، مبروك.”

“شكرًا سمير، أنتَ لك حصة في هذا الأمر”، ابتسم أنور.

“وكيف ذلك؟” اهتمّت أميرة.

“لقد كان يستمع دائمًا إليّ وينصحني. لولاه لما عرفت قيمة ما لديّ.”

إقترب أنور من سامية وعانقها. كانت أميرة في تلك الأثناء قد توجّهت إلى الطاولة لترتيبها وتنظيفها. إنحنى سمير قليلا ليساعدها.

“تسدي بالنصائح ها؟.. إنصح نفسك أولا”، همستْ.

“هل جئنا في وقت غير مناسب؟.. أشمّ رائحة طعام شهية.”

“لا، أبدًا، على الرّحب والسعة.”

إتجهت أميرة إلى المطبخ، تبعتها سامية بعد أن خلعت كنزتها الخفيفة.

“والله مش قليل”، ضرب سمير رجلَ أنور.

“هكذا هي الدنيا، لا تعرف أبدًا ما تخبئه لك الأيام.”

في تلك الاثناء كان البثّ قد انتقل إلى الملعب في فرنسا.

“لماذا تشاهد المباريات على التلفزيون الإسرائيلي؟.. شاهدها على الإم بي سي أو مصر أفضل.”

“لا أدري لماذا أشاهدها على التلفزيون الإسرائيلي، لم أفكر بهذا من قبل.”

“على الأقل لن تضطر للاستماع إلى الغبيين الاثنين اللذين يرافقان المباريات.”

“لا أدري، بقيت مباريتان فقط، لا يهمّ الآن..”

ومن دون أن يخطط لذلك أحد، جلس الذكران الاثنان أمام التلفاز واتجهت الأنثوان إلى المطبخ. ابتسم لنفسه ولم يودّ إشراك أنور في أفكاره. على كل الأحوال انغمس أنور كلية في المباراة ولا يعتقد أنه من الأفضل إشراكه في أية أفكار الآن. فرنسا ضد كرواتيا. يجب أن تنتصر فرنسا لأنّ احتمالات الانتصار على البرازيل تكون أكبر إذا لعبت فرنسا ضدّها. لا يحبّ فرنسا بشكل خاص ولا يكن أية مشاعر خاصة تجاه الكرواتيين. لن ينفعل كثيرًا من اللعبة اليوم كما يبدو. هكذا أفضل. يمكنه الحديث مع أميرة وسامية خلال المباراة. عليه أن يعرف إذا كانت سامية وأنور على دراية بما حدث وإذا ما كانت زيارتهما تهدف إلى استيضاح الأمر. للمرة الأولى يُحسّ بأنّ وجوده الآن هنا مع أميرة يُثقل عليه. وعباس، ماذا قال عباس لأميرة؟.. إنه يكرهها كما قال له، فلماذا يحادثها الآن؟

“أنور، هلاّ ساعدتني في تحضير السفرة؟”

“لا داعيَ، لا داعيَ، أنا سأساعدك في ذلك. دعيه يرى المباراة.”

تفاجأت سامية قليلا من نخوة سمير الغريبة. لم يستلطفا بعضهما البعض يومًا بشكل خاص، وانحصرت علاقتهما في إطار اجتماعيّ مسالم.

“شكرًا جزيلاً، عليّ القول إنّ تنازل رجل في هذه الأيام عن مشاهدة مباراة للمساعدة في ترتيب طاولة السفرة هو نادر جدًا، كأقلّ ما يُقال.”

“لا عليكِ، أنا لست متحمسًا لهذه المباراة على كلّ حال.”

إنحنى وفتح باب الخزانة الصغيرة عند زاوية الصالة وأخرج أربعة صحون مزخرفة.

“أرى أنك تلمّ بمحتويات البيت كأنك صاحبه.”

حسنًا، ها هي تبدأ.

“لا أسميه إلمامًا. أنا أحبّ الطعام الشهيّ كما سمعتِ لا بدّ، وأميرة امرأة كريمة تغدق عليّ من مرة لأخرى بالطعام اللذيذ. لذلك اعتدتُ على مكان الصّحون والشوك والسكاكين هنا.”

“جميل.”

هل اقتنعتْ؟.. عليه ألا يقع في فخ التبرير المفضوح، الذي يقرّب أصبع الاتهام أكثر مما يبعدها.

“معرضك كان ممتعًا، على فكرة..”

“يسعدني أنك وجدتِه ممتعًا.”

“ولكنني لاحظتُ أنّ أعمالك تصبح حزينة أكثر مع الوقت.”

“حزينة؟”

“نعم. هذا انطباعي على الأقل.”

“هذا اتجاه لم أفكر فيه من قبل.”

“ها أنا قد أفدتك الليلة. لا، لا، المناديل في الجهة اليمنى.. نعم، هكذا.. كيف عباس؟”

“جيد.”

“هل تراه كثيرًا؟”

“يعني، كفاية.. العمل عنده في المنزلة الأولى كما تعلمين.”

“نعم، نعم، هكذا كل الفلاحين.”

“آه، هل ابتدأنا بالحديث عن الفلاحين؟”

“وما دخلك أنت في الفلاحين؟”

“هل نسيت أنني جليليّ قرويّ فخور؟”

“كان هذا في الأزمنة الغابرة. أنتَ اليوم فنان مشهور تشغلك أمور الحداثة وما بعدها، ناهيك عن الهوة السحيقة التي تفصلك عن معارفك وأقاربك في القرية.”

“وكيف تعلمين ذلك؟”

“عندما تعود إلى القرية للزيارة، مثلا، هل تجد ما تتحدث عنه مع من تلتقيهم هناك؟”

“بالطبع. هل ظننتِ أنّ حياتي في المدينة غيّرتْ من تعاملي مع الماضي أو مع ما اكتسبته خلال سني حياتي الطويلة في القرية؟.. أبدًا، أنا لا زلتُ أستمتع جدًا بالقعدات الليلية في البيادر أو حول الداخون، ما زلت شغوفًا بقصص الناس التي لا تنتهي؛ القرويّ يظل قرويًا مهما ابتعد.”

“هذا جديد بالنسبة لي، لقد فاجأتني صراحة.”

“الحياة مليئة بالمفاجآت.”

المائدة جُهّزت والطعام حاضر.

(إلى صفحة الرواية)

تعليقات (0)
اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *