الظرف

“سمير، سمير..”

لم تعتد ليليان على إيقاظ أحد من قبل. كانت تستيقظ في روسيا وحدها وتحضّر الفطور والزوادة لنفسها وتذهب إلى المدرسة وحدها. كان غريغوري يعمل في منجم للفحم وكان يستيقظ قبلها بساعتيْن. أمها كانت ربة بيت أزلية ولم تكن تستيقظ قبل العاشرة أو التاسعة في أفضل الأحوال. والدها، إذا نام في البيت، يستيقظ بعد الظهيرة وربما في العصر ليبدأ جولة كحولية أخرى. لذلك فإنّ طقس الأيقاظ كان غريبًا عليها ولم تكن بارعة فيه. عندما حاولت إيقاظ سمير في المرة الأولى اكتفت بمناداته مرتيْن، بهدوء، والعودة إلى الهاتف:

“متأسفة، سمير لم يستيقظ.”

“حاولي مرة أخرى، نومه ثقيل، أنا أعرفه.”

“ولكن..”

“حاولي مرة أخرى رجاءً..”

“سمير، سمير..”

إنقلب سمير إلى الجهة الأخرى. تعرفونها هذه القلبة. محاولة أخيرة في التهرب من الاستيقاظ المحتم. لا أحد يدري ما إذا كانت تنمّ بالضرورة عن بدايات وعيٍ أو هي محاولة بائسة تنمّ عن النوم المحتضر.

“سمير.”

قالتها هذه المرة بصوت أعلى. بل تجرّأت على هزِّهِ من كتفه قليلاً.

“ماذا حصل؟”

الشعر المبعثر، الصوت الأجشّ، العيون المُحمرّة.

“هناك واحدة على الهاتف تريد الحديث إليك.”

“ما اسمها؟”

“لم تقل.”

“إسأليها ما اسمها.”

“عفوًا، ما اسمك؟”

“عبلة.”

“تقول إنّ اسمها عبلة.”

“عبلة؟.. ما الساعة الآن؟”

“الثانية.”

“يا الهي، الثانية؟.. ماذا تريد؟”

“لا أدري”، قالت ليليان بقلق. “أتريد أن أسألها؟”

“لا، لا داعيَ.”

قام متثاقلا واتجه نحو الهاتف مترنحًا.

“عبلة ما الأمر؟”

“صحّ النوم سيد سمير!”

“صح النوم؟.. أتدرين ما الساعة؟”

“ماذا جرى لك؟.. لم تكن تخلد للنوم إلا قبل الصباح بقليل. أم أنّ الروسية التي عندك أنهكتك؟”

“لا داعي لحذلقاتك الآن. ما الأمر؟”

“أودّ الحديث إليك.”

“هل أيقظتني الآن لتقولي إنك تودّين الحديث معي؟”

“الآن أقصد، أودّ الحديث معك الآن.”

“ماذا هل جننتِ؟”

“صدقني، الأمر لا يحتمل التأجيل.”

“ماذا حصل؟”

“ما سأقوله لك لا يُقال على الهاتف.”

“عبلة، رجاءً، دعيني أنام الآن ويمكنك الحديث معي غدًا في العمل. يمكننا تحديد موعد للّقاء.”

“لا يمكن. سآتي اليك الآن لو اضطررتُ.”

“لا أصدق ما تفعلينه.”

“عندما تسمع ما لديّ ستعرف أنني على حق.”

البحر مائج بعض الشيء وبار “كامِل” (الجمل) كان شبهَ خال من الرواد. سواهما، كان زوجان يجلسان بملل مفضوح يشربان البيرة بكسل. كانت عبلة جميلة بما لا يقبل التجاهل والنادلة الفتيّة التي أجّل التحرش فيها مرارًا وتكرارًا، لا تقلّ جمالاً.

“أراكِ قد أصبحتِ أجملَ بعد الزواج.”

“شكرًا على الإطراء.”

“تفضلي.”

“هل تشرب شيئًا؟”

“ليكن. جين وتونيك.”

أشارت عبلة إلى النادلة وصاحت:

“إثنان جين وتونيك… إسمع يا سيدي. هل تذكر محادثتنا الأخيرة؟”

“طبعًا أذكر.”

“اتصل بي عباس اليوم ظهرًا وطلب لقائي بسرعة. كان غاضبًا وبائسًا. عندما التقيته تملكني الخوف عليه ومنه. اعتقدت في تلك اللحظة أنّ بامكانه القيام بأيّ شيء. خصوصًا بعد أن أكدتَ لي أمر علاقتك بأميرة. ما كنت خائفة منه حصل. فاتحني رأسًا بالموضوع وقال إنك اعترفتَ أمامه بالعلاقة بينك وبين أميرة. قلت له إنّ الأمر صحيح وإنني على دراية بالموضوع. كان يتكلم ببطء وصعوبة، وكنت أرتعد خوفًا.”

“لماذا، هل بدر منه شيء مخيف؟”

“لا، أبدًا. تخيلت للحظة أنه قتلك أنت وأميرة وأنه يودّ الاعتراف أمامي بذلك. خيال مجنون وغبيّ، أعرف. بعد ذلك طلب مني أن أوصل لك ظرفا مغلقا أعطاني اياه، وطلب مني أيصاله إليك بأسرع ما يمكن. إعتذر عن هذا الطلب الغريب وقال إنّ ليس بوسعه إيضاح الموضوع لي ولكنه واثق من أنني سأقوم بذلك. حاولتُ رغم ذلك استيضاح بعض التفاصيل ولكنه اعتذر ثانية وطلب مني إيصال الظرف بأسرع وقت. سألته وهو يقوم لماذا لا يعطيه لك شخصيًا ولكنني ندمتُ على الفور بعد النظرة التي رماني بها، بما يعني: هل أنت غبية أم ماذا؟”

“وأين هو الظرف؟”

“عندي في الشقة.”

“ولماذا لم تجلبيه معك؟”

“لأنني أودّ معرفة ما يدور.”

“وكيف ستعرفين ذلك بالضبط؟”

“أنتَ ستقول لي.”

“ومن أين لك أنني أعرف ما يدور؟”

“ماذا تعني؟”

“أعني أنني لا أعرف شيئا عن الظرف ولا عمّا يدور في رأس عباس.”

“إضحك على غيري!”

“هذه هي الحقيقة.”

“الحقيقة؟.. أضحكتني.”

“ثم لماذا لم تفتحي الظرف إذا كان يهمك جدًا معرفة ما فيه؟”

“لست حقيرة لهذه الدرجة. أريد معرفة ما يجري منك شخصيًا. أعتقد أنّ ما فعلته بي يعطيني بعضًا من الحقّ في معرفة ما يدور.. كتكفير عن الذنب ربما..”

“لا أعتقد ذلك، ولا أعرف ما يدور هنا. كان عليك أن تحضري الظرف معك.”

“ما الذي يمكن أن يكون في الأوراق التي في داخله؟”

“وكيف علمت أنها أوراق؟”

“صدقني أنك إذا حملت ظرفا فيه أوراق فستعرف ذلك على الفور.”

“ماذا سنفعل الآن؟.. هل تجلبينه إليّ غدًا صباحًا؟.. أستطيع أيضًا أن أمرّ عليك في الصباح لأخذه.”

“لِمَ لا تأتي الآن إليّ لأخذه؟”

“الآن؟”

“نعم الآن.”

كان يودّ سؤالها عن خالد زوجها. هل هو نائم الآن؟..

“لا أدري، الوقت متأخر جدًا.”

“خالد سافر البارحة إلى تايلاند. للتعاقد مع شركات قوى عاملة هناك.”

لم يحبّ أبدا سياقة عبلة. تسوق كالمجنونة. حتى إنّ أخاه الأوسط لا يباريها في جنونها. وإذا كان عليه يومًا تعداد الأمور التي يخشاها في الحياة فإنّ السياقة السريعة ستحتلّ لا شكّ مكانًا مرموقًا في أعلى اللائحة. حتى عنات استطاعت دبّ الذعر فيه ذات ليلة، عنات الهادئة والوديعة. كان قد اشترى سيارته الأولى والقديمة والتي كتب عنها عباس مرة “المتوعكة دائمًا بأمر من الله”. اشتريا وقتها قنينتيْ نبيذ من مركز الكرمل وكانت وجهتهما أحراج الكرمل. طلبت عنات أن تقوم هي بالقيادة فكان.

“ماذا جرى لك؟.. ألا تشفقين على السيارة، هي ليست حِمل طاقتك كما تعلمين.”

ضحكتْ. لم تُعر ملاحظته اهتمامًا يليق بالذكر. كانت متركزة كلها في الشارع الخالي الا من بعض السيارات المليئة بالشابات والشبان. كانت السرعة تزداد: 80، 90، 100…

“تبًا عنات، ما الذي تفعلينه؟.. توقفي حالاً!”

عنات توسّع من ابتسامتها. السرعة تزداد قليلا.

“أرجوك عنات!”

عنات لا تجيب ولا تستدير إليه كأنّ مسًّا ركبها فاستحوذ عليها. في مثل السرعة التي كانت سيارته الجديدة-القديمة تسير بها لم يكن من الذكاء بموضع الضغط عليها أكثر من ذلك أو التدخل فعليًا كالامساك بالمقود أو الإمساك بها. تأكد من متانة الحزام وأخذ يتطلع إلى الشارع المضاء. لم يصدق عينيه عندما رأى الشارة الحمراء. هل ستتوقف؟.. هي ليست مجنونة إلى هذا الحدّ. ولكنها بالتأكيد لا تعي ما تفعله أو أنها تحبّه إلى الدرجة التي تفقدها القدرة على اتخاذ القرارات السليمة. تطلع إليها. إنها ترى الشارة بالتأكيد. لا يرى أو يحسّ ببوادر تخفيف سرعة.

“الشارة حمراء!”

كانت الجملة موجهة إليه أكثر ممّا هي موجهة إليها. توقفي رجاء. توقفتْ. على خط التوقف. تمامًا كما في امتحانات السياقة. ولكنه متأكد من أنّ أحدًا في امتحان السياقة لا يترك وراءه خطين سوداوين على الشارع ترافقهما رائحة كريهة للكاوتشوك المحروق. فكّت عنات الحزام وخرجت إلى جهته.

“دورك الآن.”

إنتقل إلى أمام المقود وربط الحزام.

“ماذا كان هذا؟”

“جرّبتُ السيارة، ليس إلا.”

“ولكنك تعرفين أنني أرتعب خوفًا من السياقة السريعة، ولن أقول السياقة المجنونة، الغبية، المتهورة، القاتلة.”

“آسفة.”

“لا تتأسّفي. قولي لي فقط لماذا فعلتِ ما فعلتِه؟”

“قلتُ لك، كنت أجرّب السيارة.”

“هراء. على من تحاولين الضحك هنا؟.. هل هذا لقاؤنا الأول لتعتقدي أنّ باستطاعتك التهرب مني بهذا الشكل السخيف؟”

“قلتُ لك، كنت أجرب السيارة ليس إلا.”

لم يرجُ من الجدال نتيجةً فصمت. لم يتلقّ منها جوابًا أبدًا فيما بعد على سؤاله. وهو لم يعاود السؤال أبدًا.

بدت الشقة كبيرة بعض الشيء وخالية بعض الشيء، رغم قطع الأثاث الكثيرة والغالية التي كانت تغصّ الغرف بها. الحداثة طغت على أسلوب الأثاث مضافة إليها مسحة من الشرق. هكذا كانت عبلة تصف له بعد كل عملية جنس بيتهما المستقبليّ. كانت تحاول أن تكون حداثوية في كل شيء وكانت تحرص دائمًا على إضفاء “المسحة الشرقية” على كلّ شيء. كرفع عتبٍ ربما.

“قهوة؟”

“الظرف.”

“أصبحتَ فجأة عمليًا.”

“الساعة تجاوزت الثالثة ومن غير المستحسن أن أظلّ عندك أكثر من ذلك. لن يبدو الأمر جيدًا إذا أحسّ أحد الجيران بذلك.”

“أيّ جيران؟.. هل تظن نفسك في القرية؟”

“أنت تسكنين في شارع يقطنه الكثير من العرب.”

“لا عليك، كلٌ في حاله. تشرب قهوة أم نبيذًا؟”

هي مُصرّة لا شكّ.

“النبيذ لن يضرّني أبدًا الآن.”

عليه الاعتراف بأنّ البار الواقع في زاوية الصالة الواسعة ملفت للنظر. جميل ومليء بالقناني الغالية. ما زال جسدها متناسقًا ونحيفًا. يستطيع تذكره بحذافيره.

“تفضل فناننا الكبير.”

“سأتجاهل السّخرية المبطنة.”

“سخرية؟.. لماذا تسيء الظن فيّ؟.. أنا أعتقد فعلا أنك فنان كبير. سيكتشف العالم ذلك يومًا ما.”

“بعد أن أموت.”

“هل ما زلت تحب رسمي وأنا عارية؟”

هل بدأت اللعبة؟.. فليكن يقظًا.

“لنقل إنني لم أتوقف عن الإعجاب بجسدك يومًا.”

“فقط بجسدي؟”

(ما هذا؟.. امتحان في النسوية؟)

“لا، مجرد حبّ استطلاع. لربما أكتشف لماذا لم ترَ فيّ الانسانة التي تودّ قضاء بقية حياتك معها.

“هل سننبش الماضي الآن؟.. ليس لأجل هذا جئنا.”

“على المرء أن يكون على أهبة الاستعداد دائمًا للتأقلم مع المستجدّات. أتذكر ذلك؟”

طبعًا يذكر. إنها إحدى تجلياته التنظيرية التي كانت تنتابه من مرة لأخرى.

“أذكر.”

“كنت أحبّها جدًا.”

“ما هي؟”

“تجلياتك التنظيرية. ألم تكن تسمي محاضراتك الطويلة بهذا الاسم؟”

“بلى. ولكني لا أذكر أنها كانت طويلة.”

“حسنا، متوسطة الطول. وصف موضوعي؟”

“أحسنتِ.”

ابتسما. لماذا يشجعها على تحويل مسار الحديث إلى حيث تريد؟.. سيكون صارمًا الآن. سيطلب الظرف وسيذهب. اجترع من النبيذ. اللعنة. إنه ممتاز. لقد أمسكته “على الوجع”.

“نبيذ أجنبي؟”

“فرنسيّ. جلبنا قنينتين من شهر العسل. سأعطيك واحدة لو أردتَ.”

“لا، شكرًا، هذا كثير. ولكنني سأسرّ جدًا إذا حصلت على كأس أخرى.”

“بكل سرور.”

إنها تبدو أكثر سعادة وانطلاقًا الآن. الظرف، الظرف!

“هل ستعطينني الظرف أم ستسكرينني فقط؟”

“هل يكون لي الشرف الكبير فيحصل الأمران؟”

“لا أظن أنه من المحبذ أن تفعلي ذلك.”

“ولِمَ؟”

“أنتِ تذكرين أنني أفقد السيطرة عند الثمالة. خاصة في حضور امرأة جميلة مثلك.”

تبا، ماذا الذي يفعله الآن؟.. يغازلها! الظرف، الظرف. لماذا يزيد الأمور تعقيدًا؟

“لن أعتبر هذا تهديدًا”، أعطته الكأس الملأى.

إجترع منه ما تيسّر. إنه جيد حقا. هل يطلب منها القنينة الثانية التي عرضتها عليه قبل لحظات؟.. أشعلت سيجارة “كِنت” طويل. أشعل هو سيجارة من دخانه الرديء والرخيص.

“الظرف.”

“ما قصة الفتاة التي ردّت على الهاتف؟.. واحدة أخرى؟”

“لا، هذه قصة طويلة.”

“هل رميتَ بأميرة إلى الجحيم؟”

“عبلة، لن نتكلم عن هذا الآن!”

“أفرحني قليلا على الأقل.”

“الظرف.”

“ألن تحاول التحدث إلى عباس ثانية؟”

“لا أدري، ليس الآن على الأقل.”

“هل تعتقد أنه سيغفر لك يومًا؟”

“لا، لا أعتقد ذلك.”

“لماذا إذًا طلب مني إعطاءك الظرف الخطير؟”

“أولا نحن لا نعرف حتى الآن ما إذا كان الظرف خطيرًا. وثانيًا قد يكون كتب فيه رسالة مُرّة وقاسية ستقصم ظهري. فإذا تكرّمتِ وجلبتِه سيكون باستطاعتي معرفة ما فيه.”

“وماذا مع أجرتي؟”

“عفوًا؟!”

“أجرتي. ألا يتقاضون في هذه المدينة أجرة لقاء الإرساليات؟”

“أطلبي.”

اجترعت كأسها حتى الثمالة ووضعته على الطاولة. وقفت وبحركة سريعة فتحت سحاب فستانها الخلفيّ. إنها لا ترتدي سواه. يا إلهي، كيف عادت كلّ الليالي الطويلة والدقائق المدمرة على فارسيته الحمراء وفي الحمام وعلى الغسالة وتحت شجرة الخروب الهرمة أمام شقتها القديمة؟.. كيف خرجت إليه كلّ الصور المتناثرة التي كانت نائمة في مسامات ذاكرته اللعينة لتغشي بصره ولتبلبل حواسه وإدراكه، فتُختزل كل الدنيا في هذه اللحظة اللعينة إلى لمسة واحدة لهذا الصدر الرائع. إنه الشبق، أو الشهوة، أو الادمان. إنها البداية، فقط، وربما النهاية بالذات. من يكون هو الآن؟.. ماذا سيفعل في الصباح وماذا ستبعث فيه أغطيتها عندما يستيقظ؟

مرة أخرى وسيذهب، لمسة أخرى وسيذهب. أميرة، عنات، ليليان، كلهنّ يعُدنَ كأطياف غريبة، معادية، يختلسن النظر ويعددن الثواني واللحظات. سيصرخ لا محالة، سيصرخ… إنه يصرخ… الظرف!

(إلى صفحة الرواية)

تعليقات (0)
اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *