الدال نقطة يتردّد

الدال نقطة ابن الزانية يحبّ إلقاء المحاضرات. تراه يندمج حتى الثمالة في الشرح والإعادة والإسهاب حتى لتخاله للحظات سينقضّ على مستمعيه ليهزّهم بعنف: ها، هل فهمت؟.. وبحسب معرفته الجيدة بالدكتور حكيم فإنّ ألذّ اللحظات عنده هي بداية الحصة. الدخول إلى القاعة المليئة بطلاب العلم ممّن يطمعون بلقب جامعي واحد على الأقلّ يعطيه نفس الشعور الذي ينتاب عارضة أزياء هيفاء تكون محطّ أنظار المئات والكثير من عدسات المُصوّرين. التباين في الشكل والارتفاع والجمال لا يترك أيّ مجال للمقارنة في هذا المنحى، ولكنّ المقارنة تكون مجدية في الحماس والانفعال والشعور بالأهمية.

“صباح الخير!” يدمجها بالمرح والاستعداد المنعش لساعتين من الصور والشرح والنظريات الفنية. القمة تكون بعد شرح النظريات الفنية المتعارفة والتفسيرات المنشورة في الكتب الفنية النقدية. يتروى بعدها ثم يقترب من حافة الطاولة ويجلس على الطرف لضروراته الجسمانية التي أوردنا ذكرها سابقا.

“في اعتقادي فإنّ الأمر يختلف قليلاً.”

الآن دوره هو في التنظير. في الربع ساعة القادمة سيطرح وجهة نظره بإسهاب (التي تتحوّل تدريجيًا إلى نظرية) وسيقوم بطرق كلّ السّبل المختلفة والممكنة لإقناع مستمعيه بأنّ وجهة نظره أكثر كمالاً وذكاءً وإجمالاً. حتى النظريات التي عرضها في البداية (“الهامة والشاملة والموضحة لكل العمل الفني الحداثوي”) تصبح ناقصة وربما غير هامة في بعض الأوجه. واذا كان اجتهد فعلا في الأمر المطروح فإنه لا يتورّع عن الإعلان أنّ كتابه القادم سيتناول النظرية التي فرغ للتوّ من استعراضها، وأنتم أيها الطلاب قد حظيتم من دون أن تجتهدوا لذلك بشرف الاستماع إليها مباشرة ومن دون وسيط وبكل الإسهاب.

“أعتقد أنك بالغت قليلا في نقد نظرية روتنبرغ”، قال سمير وهو ينضمّ إلى الدال نقطة في خروجه من القاعة.

“ما زلتَ صغيرًا”، ردّ الدال نقطة (ابن الزانية) وهو لا يحاول إخفاء الابتسامة التي ترافق هكذا جملة.

“إلى مكتبك؟”

“لا”، تعال نجلس في الكافيتيريا.

الدال نقطة من المحاضرين القلائل الذين يجلسون في الكافيتيريا في الطابق السفلي. “كافيتيريا القبو”، كان اسمها. معظم المحاضرين يفضّلون الجلوس لشرب القهوة أو لتناول الطعام في المطعم الصينيّ في الحرم. هذا الأمر من بين الامور الأخرى التي جعلت الدال نقطة معروفًا لدى الطلاب ومحببًا عندهم. على الأغلب عند الطلاب العرب.

“هل من جديد؟”

“نعم.”

“هات ما عندك إذًا.”

كان الدال نقطة قد اتصل بسمير في العمل وطلب لقاءه على السّريع. ليس من عادة الدال نقطة الاتصال بسمير في العمل وليس من عادة سمير ترك العمل في الظهيرة. حتى الغداء كان يطلبه من مطاعم مجاورة. لكنّ التطورات الأخيرة لا بدّ كانت السبب في جعل الدال نقطة يتصل بسمير في ظهيرة اليوم (بعد مغادرة عنات) ويطلب لقاءه على السّريع. سمير لم يفكر طويلا وحماس الدال نقطة لم يترك له خيارًا، وربما حرّك حب الاستطلاع في داخله.

“بالطبع تذكر كل القصة حول “السيرك” واللقاء الذي لم يحصل.”

“نعم.”

“قررت اليوم صباحًا أن أجرّب الرقم الذي كان مكتوبًا على الورقة التي تُركت على زجاج السيارة. في المرة الأولى لم يُجب أحد، ولكن بعد ربع ساعة عاودت الاتصال وردّت نفس الفتاة التي تكلمت إليها في المرة الاولى وحددت معي موعدًا.”

“و؟..”

“تقول إنّ اسمها مرڤت وإنها تسكن في حيفا. اتضح أنها تعرفني جيدًا وحتى إنها حضرت إحدى محاضراتي الأخيرة قبل التوجه إليّ.”

“وماذا مع السيرك؟”

“على مهلك”، ابتسم الدال نقطة. ربما لأنه أحسّ بأنه نجح أخيرًا في اجتذاب سمير إلى القصة وضمان اشراكه في تطوراتها… “سألتها عن سبب إخلافها للموعد ولماذا عليّ أن أصدّقها الآن. تحدثتْ عن ضرورات ومستجدات ليس بإمكانها الدخول إليها، ولكنها أكدت أنها ما زالت معنية باشراكي في الموضوع وأنها كانت تنوي الاتصال بي قريبًا، وبما أنني تحدثت أولا فلا مانع من اللقاء اليوم، إذا أردت.”

“ومتى ستلتقيان؟”

“اعتذرتُ عن اللقاء.”

“ماذا؟.. لماذا؟.. ألم تكن متلهفا للموضوع؟”

أطرق الدال نقطة قليلا وكان كَمَن في حيرة من أمره.

“لا أدري سمير، لا أدري.. فجأة وجدت نفسي أعتذر وأقول لها إنني أفضل تأجيل الموضوع قليلا. كانت متفهمة جدًا وقالت إنّ هذا افضل لكلينا واتفقنا على أن تعاود الاتصال بي خلال الأسبوع.”

“ما زلت لا أفهم.”

“لنقل إنني خائف”، كان الدال نقطة ينظر إلى عيني سمير، “ما أدراني ما الذي تخبئه لي هذه المرڤت؟.. ثم هل أودّ حقا التورط في قضية وربما سرقة تتعلق بأغلى أعمال بيكاسو؟”

كان الدال نقطة على حق. لم ينتبه سمير إلى الخطورة الكامنة في الموضوع. ربما استهوته المغامرة أكثر من اللازم.

“أعتقد أنك محق. ما الذي ستفعله الآن؟”

“لا أدري، صدقني.. لهذا طلبت لقاءك. أنت درست الفن وتعمل في متحفٍ راقٍ، هل كنت ستخوض مثل هذه التجربة؟”

“لا أدري.”

صمت. ارتشف الاثنان من فنجاني القهوة “الإسبرسو” الكبيريْن. كان سمير يهمّ بتغيير الموضوع كلية أو ربما الحياد عنه لبعض الوقت والحديث عن عنات. ولكن الدال نقطة فاجأه.

“وماذا مع صديقك الصحفيّ، ما اسمه؟”

“عباس؟”

“نعم، نعم، عباس. قلت إنه سيفحص رقم الهاتف عند صديق شرطي له. ماذا حصل؟”

“في الحقيقة… لم..”

“يا الهي سمير، ألا تصدق مرة واحدة في حياتك؟”

“ليس هذا، أنا وعباس لسنا بعلاقة جيدة الآن..”

“ماذا حصل؟”

“قصة طويلة ومعقدة، أفضل ألا أخوض فيها الآن.”

“كما تريد، ولكن إذا عادت المياه إلى مجاريها قريبًا فليكن هذا الأمر في أعلى سلم أولوياتك.”

“لا تقلق، سأفعل.”

صمت. أخذ الدال نقطة يرتشف القهوة بسرعة ويحرّك جسده بعض الشيء. علامات القيام.

“دكتور، كنت أودّ الحديث معك عن..”

أصغى الدال نقطة لسمير ولما لم يستهل الكلام استحثّه:

“عن ماذا؟..”

“عنات..”

“عنات عنات؟”

“نعم، عنات.”

“ماذا حصل؟.. هل التقيتها؟”

“نعم، اليوم صباحًا.”

“و؟..”

“جلسنا وتحادثنا طويلا، بالأصحّ قليلا. لا أدري لماذا ولكنني كنت سلبيًا جدًا وفي بعض الوقت وقحًا جدًا.”

“أنا أفهمك.”

“الأمر معقد جدًا. لم أتخيّل يومًا أنني سأضطر لمواجهة مثل هذا الأمر. منذ تركها لي نفيت كل إمكانية لمثل هذا اللقاء. لم يكن بوسعي الاستمرار في انتظارها وتوقّع عودتها. رفضتُ نهائيًا هذه الفكرة وكلّ ما يتعلق بها. يمكنك أن تقول إنني نسيتها.”

“وماذا الآن؟.. ماذا ستفعل؟”

“لا أدري. طلبتْ لقائي الليلة لتتحدث إليّ. لن أذهب بالطبع.”

“هذا يعود إليك في النهاية. ولكن ربما من المستحسن أن تستمع إليها.”

“ليس هذا من حقّها. لن أمنحها هذه الفرصة. من ناحيتي فلتذهب إلى الجحيم.”

“أنت منفعل..”

“أنا…”

“عفوًا، د. حكيم.”

تطلع الدال نقطة إلى الفتاة الواقفة فوقه بالضبط، لا يدري من أين أتت، مادة يدها للمصافحة.

“نعم؟..”

“مرڤت، مرڤت عبدو!”

(إلى صفحة الرواية)

تعليقات (0)
اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *